قهوة المجلس أو ريح السموم

بقلم فاطمة الدرعي

 

Read the English version of the piece here.

(@j6milart) الفنانة: جميلة محمد

 

"شايل بخاطرك عليّ؟” 

"لا."

" ما يالك من قبل؟" 

" ما قدرت، فوادي ما طاوعني."


أهز فنجاني بغية الجمع بين نظراتنا المتفرقة، لكنني بامتعاض أرى أعينه تسير نحو الفنجان الذي يدني الدلة عليه ليسكب مزيدًا من القهوة متجاهلًا نظراتي.

لطالما ظل مصير علاقتنا محكومًا بخيط رفيع، إذ بقيت أتجنب ارتكاب كل ما من شأنه أن يمزقه. ولكنني الآن - محدقة بالبخار المتصاعد من الفنجان - تتملكني رغبة عارمة في تجاهل ما بقينا متشبثين به لأقطعه دون هوادة. فقد التهم صوت ارتشافي من الفنجان الصمت المحدق بالمجلس.

بدا على غير ارتياح في جلسته، لذا راح يعدِّل جلسة التربيعة التي اعتاد عليها بأن مدَّ إحدى ساقيه إلى الأمام والأخرى القريبة مني تركها مثنية وركبته للأعلى، وأراح يمينه على ساقه المثنية قبل أن يرتشف القهوة وأعينه منصبّةةٌ باتجاه السجاد الذي قعدنا عليه. أستمر بشرب القهوة بينما هو ينشب  بأصابع قدميه على السجاد، بينما  كانت تحكُّ حبيبات الرمل النوافذ و الجدران خارجًا. لم تخيِّب ريح السموم ما عهدته بها من شدة، فقد بدا صمتنا بفضلها  مُدعقًا للآذان.

مضيتُ أمعن النظر في وجهه وشعور من الانزعاج يحيط بي بسبب التجاعيد الجلية على وجهه الممتلئ. لا أتذكر متى استحال قوامه النحيل إلى هذه الهيئة الممتلئة.


"شرايك أناديك  الشايب عبود؟ لا تفكر وزنك الزايد بيستر على اللي بويهك." 

"أنتي كنت متينة وأنتي ياهل،  احشمي نفسج  شوي."

"يوه كنت! هذا الكلام حق زمان أول، والحشمة ودرناها في ذاك الزمان."

"متأكدة؟ تحذري يا بنت ترا لسانج  بيجيب لج مصايب ودواهي في دنياج."

"أحسنت ما قصرت على النصيحة اللي محد طلبها، عمري خمسة وثلاثين سنة، أموري طيبة والحمدلله ربك كريم." 


تبدَّلت ضحكاته في تلك اللحظة إلى شيء آخر، وذلك عندما رفع رأسه لينظر إلي. وراح بحزنٍ وصدمةٍ يقارن ما كان يعهده من شكل وجهي. نعم كبرت في السن أيضًا، هكذا أبرقت عيناه متقبلةً هذه الحقيقة الغير مريحة.

لطالما حز في خاطري أنه ظل ينسى كم كان عمري، فقد بقي أخي يقول للناس أنني "ربما في الخامسة والعشرين" مع أني سأبلغ السادسة والثلاثين عما قريب. ولما كنت في العشرينات من عمري، أصر عبثًا أني أبلغ "خمسة عشر عامًا تقريبًا". لقد بلغ ترديده لهذا الكلام حدًّا مقلقًالا. لم أسأله ما إن كان يدَّعي النسيان أم لا، ولكني  تعمدت ذكر سني كلما سنحت الفرصة لتذكيره كي لا ينسى. 

أذكر عندما جاء سالم طالبًاا يدي للزواج. فقد عهد عبدالله إلى زوجته سرًّا بأنه كان معارضًاا للفكرة لأني صغيرة جدا على سالم، وصغيرة على الزواج حتى. لكنها قالت لزوجها بأنه قد فقد عقله! وذكرت عبدالله بأنه كان أصغر سنًا مني عندما تزوجها، وفوق هذا فأنا أكبر سالم بثلاث سنين.

لقد كان وقع ما سمعه مفاجئًا حتى أنه بقي يتخبط ويتقلب في الفراش طوال الليل، كما قالت لي بأنها انزعجت للغاية من حركته المستمرة حتى ركلته بعيدا عن مضجعها وراح هو الآخر يقضي ليلته وحيدا في فناء المنزل مستمرًا في شرب القهوة بذهن شارد حتى مطلع الشمس. لكنه لم يحظ بقسط من النوم إلا عندما عاد في الظهيرة بعد يوم طويل وشاق قضاه وهو يبيع بقالته في سوق الجمعة . لقد كفَّ دماغه عن تقبل فكرة أني كبرت، و يبدو لي أن دماغي كف عن استيعاب تقدم عمرنا أيضًا. 

تسلل إلى داخلي شعورغريب ومألوف بعدم الراحة حين وصلت إلى منزلهم هذا الصباح . استقبلتني ابنة أخي لتفتح الباب بعد أن قرعتُ الجرس. لقد استغرقها وقتًا أطول لكي تدرك من كنا لبعضنا البعض قبل أن مدت يديها إلي بربكة.


سألتني والتردد بادٍ على صوتها: "عمّوه؟"

 لقد صادقت على شكوكها قبل أن أضمها إلي: "إيه حنان، أنا عمّوه"


كانت بالكاد تطال خصري حين رأيتها آخر مرة، والآن هي تفوقني طولًا وملامح أبويها بادية عليها. لا بد أن أجفان عيونها المنبسطة هي كل ما بقي عليها منذ ذاك الوقت، فتلك العيون هي حتمًا عيون أمها، وهي أيضًا من بين القواسم القليلة التي تتشاركها مع أخيها الذين كان دوي شجارهما يُسمع من خارج المجلس، وهو ما دفعنا إلى الضحك قليلًا.


علق مازحًا: "كنت أخاف أجيب بنية وتتولف ويا عمتها راعية المشاكل."

فأجبته بسخرية: "أدري، والحمدلله ما قصرت لما جبتها." 

"إيه والله، الحمدلله." 

"الحين أنت مستانس لأنك جبت بنية،  ولا لأني عمتها راعية المشاكل؟"

تبسم أخي ضاحكًا قبل أن يزيح نظره نحو فنجانه مجددًا، أما أنا فمضيت أدوّر فنجاني وألاحق الأبخرة الملتوية والمتصاعدة من تلك القهوة السوداء التي كانت أقوى من القهوة العمانية المعتادة. لا بد أنه هو من أعدها على غرار زوجته. وأثناء معمعتي تلك، علا صوت أنفاسه أكثر من ذي قبل، حتى أطلق تنهيدته:

"ما خطر في بالي  إنج بتردين، فكرت  بيتنا هذا ما مالي عينج. " 

رددت عليه بنبرة حادة:"أنت كذا تحب تخترع كلام  فاضي عشان نفسك؟" 

عقدت ما لدي من أعصاب منتظرة ردًا آخر منه، لكني سرعان ما هدأت حين سمعته يضحك، لقد رفع يده الفارغة كما لو كان يعلن الاستسلام، وبرزت خطوط تجاعيده أكثر من ذي قبل حتى أن لحيته عجزت عن إخفاء تجاعيده المتداخلة حول فمه والممتدة حتى أنفه:


"يا ربي، كيف ريلج صابرعليج  لين إلحين؟ ترا كنت أمزح." 

"يا ليتك صج تمزح، خلي عنك! كلنا نعرف أنه كلامك مب مزح."


انطلقت منه تنهيدة أخرى، وانطلقت معها دلة القهوة ليسكب فنجانًا آخر، ولاحظت  بريقًا  غير مألوف في عينيه. أهي الدموع؟ في ذلك الصمت تقودني أفكاري  نحو تلك التجاعيد مرة أخرى، أتذكر جيدًا حينما كانت تتلاشى مع تعابير وجهه الحيادية أو الصارمة. بقيت في تأملاتي إلى أن قطع صوته حبل أفكاري هذه. 


"أنتي ليش ياية هنيه؟" 

قطبت حاجبي وطغى على وجهي الاستغراب قبل أن أجيبه: 

"عشان العزا، عيل حق ايش ؟" لوحت بيدي بسخرية  "ولو ما عندك  خبر، ترا السموم بعدها تهدر برا." 

"لا مب هذا قصدي، أنتي ليش هنيه الحين؟ ليش ما رحتي لما خلص العزا؟"

"ودر عنك العزا ما خلص، لو نحن ما كنا هنيه  كانوا نبشوا بيتها شبر شبر وسرقوا ا كل شيء قبل ما لفيناها بالكفن. بس الحين دام دفناها فأنا..." 


أشعر بأنه لا يود سماع ما سأقوله، لذا كففت عن شرحي، ووضعت الفنجان جانبًا وشبكت ذراعي بينما هو ينظر إلى الباب المغلق.


"يمكن أنا ما درست وتعلمت شراتج، لكن بعدني أخوج الكبير، على الأقل احترمي هالشيء." 

"اسمع! تو كيف قللت من احترامك؟" 

"ماني محتاج وقفتج الحين."

"كلنا ندري أنك محتاج هالشي، ودر عنك المكابر لا يجيب لك الفقر أنت وعيالك."


أحاط جو من الحساسية والغضب بالمجلس بأسره ، وأخذ دمي يفور متدفقًا إلى رقبتي بفعل نبضات قلبي الصارخة، وسرعان ما وصل به الأمر إلى وجنتي وأذني قبل أن يصب تركيزه على جبيني حيث يفضحني نبضه هناك. قاومت غضبي الجامح وأحكمت إغلاق شفتي قبل أن ينهال سيل الألفاظ التي لا تُحمد عقباها.


بعدها تحدث بنبرة انهزامية قائلا: "خاطري أعرف من وين لج طولة اللسان هذي عشان تتكلمي كذا مع أهلج" 


تلاشى غضبي وكأنما أزاله شيء ما لم أكن أعرفه، لكني تقبلت الأمر، فأنا متعبة.


بحّ صوتي على حين غفلة حين قلت متساءلة: "ليش جلست هنا؟ كان ممكن تودر المكان"

"ما أدري،" هز كتفيه" بس اللي لازم تعرفيه أني ما شلت بخاطري عليج  لما رحتي."


لم يكن معي أي رد أو تعقيب لما قاله. في صمتي زممت شفتي و أسناني بشدة مما جعل عضلات رقبتي تشتد مرة أخرى. أحاول أنا أهداء لكي أعفي رقبتي من الإجهاد العضلي، بينما هو استخرج فنجان نظيفًا من وعاء الغسل ليسكب لي مزيدًا من القهوة.


".تدري أني كنت أبدل حفاظاتج؟ مرة من المرات سويتيها فوق عسّي في دكان محمد مرهون وعطانا حفاظة ببلاش، طبعًا تكرم علينا حبًا فيج  ورحمةً علي"


فاجأني تعليقه، وجعلني أضحك بحسه الفكاهي المميز الذي يقنص مني الضحكة تحت أي ظروف، حتى إن رقبتي المجهدة آلمتني بسبب ذلك. فككت ذراعي المتشابكتين وأخذت الفنجان الذي ناولني إياه.


".لا حول! شرايك تبلغ البلاد كلها؟ وبالمرة نشح كل علومي وفضايحي اللي تعرفها بعد" 


جعلني جو الضحك ذاك أدرك أن ريح السموم قد توقفت تاركة رمالها خلفها. أستطيع تخيل ذاك الوشاح الأصفر يغطي كل شيء في الخارج. بينما غطى حديثنا ومرجنا المجلس بماضٍ لا يتشاركه سوانا، أنا ألامس ذاك الخيط الرفيع الذي يربطنا الآن، إنه عتيق، ومهترئ وبالٍ، لكنه بمعجزة ما ظل متماسكًا.

كاتبة القصة:

فاطمة الدرعي كاتبة و صانعة محتوى عمانية من مسقط حيث تملأ وقتها خارج العمل بالكتابة والقراءة والمشي لمسافات طويلة خارج المدينة، أو السفر متى ما سنحت لها الفرصة. دفعها شغفها بكتابة القصص إلى تجربة كتابة العديد من الأجناس الأدبية كالقصة الخيالية التي قرأتموها. ستسعد فاطمة بالاستماع إلى آرائكم وتعليقاتكم على الإنستقرام: @fatemaseyes! 


الفنانة: 

جميلة محمد فنانة عمانية ذات خبرة و اهتمام في مختلف الفنون، بما في ذلك الرسم و التخطيط و التصميم الجرافيكي و أيضا مهتمة بالعلامة التجارية. يمكنكم التواصل معها من خلال انستاقرام  j6milart@


مترجم القصة من الإنجليزية: 

أحمد الخصيبي مترجم عماني ذو خبرة في العديد من المجالات و يولي الترجمة الأدبية اهتماما خاصا. يعمل أحمد في إدارة المحتوى و يدير مشروع ورق+ الذي يقوم بتقديم العديد من خدمات الترجمة و إدارة المحتوى و عندما لا يكون مشغولا من المرجح أنه يخطط لرحلته التالية مع أصدقائه. 

مشروع ورق: https://www.instagram.com/waraq_plus/ 

لنكدإن: https://www.linkedin.com/in/ahmedalkhusaibi/ 

Unootha Magazine